الأحد السابع بعد عيد ارتفاع الصليب - عيد يسوع الملك «الإنجيل
إنجيل متى (25/ 31 -46)
دينونة الأمم
قالَ الربُّ يَسوع: «مَتَى جَاءَ ٱبْنُ الإِنْسَانِ في مَجْدِهِ، وجَمِيعُ المَلائِكَةِ مَعَهُ، يَجْلِسُ على عَرْشِ مَجْدِهِ.
وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَم، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُم مِنْ بَعْض، كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الخِرَافَ مِنَ الجِدَاء.
ويُقِيمُ الخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالجِدَاءَ عَنْ شِمَالِهِ.
حِينَئِذٍ يَقُولُ المَلِكُ لِلَّذينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم؛
لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني،
وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ.
حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ الأَبْرَارُ قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاك، أَو عَطْشَانَ فَسَقَيْنَاك؟
ومَتَى رَأَيْنَاكَ غَريبًا فَآوَيْنَاك، أَو عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاك؟
ومَتَى رَأَيْنَاكَ مَريضًا أَو مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْك؟
فَيُجِيبُ المَلِكُ ويَقُولُ لَهُم: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاءِ الصِّغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه!
ثُمَّ يَقُولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمَالِهِ: إِذْهَبُوا عَنِّي، يَا مَلاعِين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وجُنُودِهِ؛
لأَنِّي جُعْتُ فَمَا أَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَمَا سَقَيْتُمُوني،
وكُنْتُ غَريبًا فَمَا آوَيْتُمُونِي، وعُرْيَانًا فَمَا كَسَوْتُمُونِي، ومَرِيضًا ومَحْبُوسًا فَمَا زُرْتُمُونِي!
حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ هؤُلاءِ أَيْضًا قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جاَئِعًا أَوْ عَطْشَانَ أَوْ غَرِيبًا أَو مَريضًا أَو مَحْبُوسًا
ومَا خَدَمْنَاك؟
حِينَئِذٍ يُجِيبُهُم قِائِلاً: أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا لَمْ تَعْمَلُوهُ لأَحَدِ هؤُلاءِ الصِّغَار، فلِي لَمْ تَعْمَلُوه.
ويَذْهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذَابِ الأَبَدِيّ، والأَبْرَارُ إِلى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّة».
تأمل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع)
كم هو مختلف هذا المجيء المسيحانيّ عن مجيء يسوع الأوّل المحتجب والفقير في بيت لحم. المجيء الآخر لن يكون ليضع الإنسان أمام خيارين قبول المسيح أو رفضه. هذا الخيار قد حقـَّـقه المجيء الأوّل. فالمسيح تجسّد وبشّر ودعا إليه التلاميذ لينقلوا البشارة إلى العالم كلّه، وتألّم ومات وقبر وقام، وأعطى الرّوح القدس لتلاميذه وبالرّوح أوحيت الكتب المقدّسة. بهذا كلّه ترك المسيح لكلّ واحد منّا مجال الاختيار، قبول المسيح أو رفضه. لا يمكننا أن نقول إنّنا لم نقابل المسيح تاريخيّاً وبالتالي فلا ذنب علينا، فالكتاب المقدّس، وبخاصّة العهد الجديد، هو كلام الله المباشر لكلّ منّا. إن قبلناه نلنا الحياة، وإن لم نقبله ندان بحسب خيارنا.
متى جاء ابن الانسان... يجلس على عرشه... حينئذ يقول الملك. نرى الانتقال في التعبير في "إنسان" و"ابن الإنسان" إلى صفات "الملوكيّة"، هو المسيح الدّيان، هو المسيح الإله - الانسان، المسيح الذي تعلّم عنه الكنيسة" إله واحد، أقنوم واحد، ذو طبيعتين كاملتين، واحدة إلهيّة وأخرى إنسانيّة، دون انفصام ولا امتزاج".
هي الحالة الإنسانيّة التي ارتقت بالمسيح كلمة الله المتجسد، إلى أسمى المراتب التي دعيت إليها، التأله. دعوتنا الإنسانيّة هي أن نشترك في الحياة الإلهيّة التي نلناها بالتبني (غل 4)، وكما أنّ المسيح الديّان هو ابن الإنسان، لأنّ إنسانيّته لم تكن قناعًا لبسه المسيح ليحجب ألوهته، بل أخذ جسمًا حقيقيًا من مريم العذراء، هكذا الجسد لا يعود إلى العدم، وإنسانيّتنا نحن أيضًا، من خلال المسيح، لا يمكنها أن تعود إلى العدم، بل تَمثُل أمام "منبر ابن الانسان" لتأخذ جزاء خيارها وأعمالها الحرّة، إمّا الاشتراك بالحياة الإلهيّة، وهي الحياة الأبديّة والنعيم الأسمى، وإمّا الانفصال عن الله، مصدر حياتنا ووجودنا وقمّة سعادتنا، وهو الموت الأبديّ والعذاب الجهنميّ.
هو ليس عملاً انتقاميًا من الله، فالله آب، والله محبّة، ولا ينتقم اذ لا يدخله الشرّ، عذابنا الأبديّ هو النتيجة النهائيّة لخيارنا الحرّ، إذا اخترنا الإنفصال نصل إلى الموت.
وتُجمع لديه جميع الأمم.
كلمة "أمم" تعني عادة في الكتاب المقدّس ليس فقط شعب إسرائيل، أو أبناء الكنيسة laos (الشّعب)، إنّما تشمل أيضًا الذي حكم خارج حدود شعب الله المختار في اسرائيل القديمة، الشّعوب الأخرى الوثنيّة، أو الذين هم خارج شعب الله الجديد، أي الكنيسة. إنّ الدينونة هي عمل الملك الإلهيّ، ومملكته تشمل كلّ قبيلة وعرق وشعب وأمّة.
دعوة الله ليست حكرًا على شعب معيّن، وحين اختار الله له شعبًا في العهد القديم، لم يكن هذا الإختيار تفضيليًا، فإسرائيل ليست أفضل من كنعان ولا من آرام، العبرانيّين لم يكونوا أسمى من المصريّين ولا من الحثيّين أو من الفينيقيّين... لقد دعا الله له شعبًا ليعلن اسمه في الشّعوب كلّها: "لتعترف لك الشّعوب يا ألله، لتعترف لك الشعوب أجمع" (مز67، 6)، وفي العهد الجديد دعا المسيح الكنيسة لتعلن إنجيل الخلاص إلى كلّ الأمم.
إختيار اسرائيل، كما إختيار التلاميذ، لم يكن تفضيليًا، إنّما اختار الله الأضعف ليخزي الأقوياء ويعلن قوّته وسموّه فوق آلهة الشّعوب الأخرى الأكثر قوّة عسكريًّا، والأكثر تقدّمًا وعلمًا، واختيار الصيّادين كان ليعلن للعالم كلّه أنّ قوّة الله هي التي تعمل من خلال ضعفنا البشريّ.
لذلك فكلّ الأمم تُجمع أمام المسيح الديّان، لأنّ كلّ الأمم مدعوّة إلى الخلاص، وكلّ إنسان سوف يُدان على ما فعله وبحسب ما عرف وعلم، الخلاص ليس حكرًا على المسيحيِّين، فالذين عندهم الناموس، فبالناموس يدانون والذين هم بلا ناموس فسوف يدانون بحسب الشريعة المكتوبة في قلوبهم "وهم وإن كانوا بلا ناموس، فهم ناموس لأنفسهم، وهم يبرهنون أنّ الناموس مكتوب في قلوبهم، وضمير يشهد، يوم يدين الله بيسوع المسيح خفايا البشر" (روم 2، 14-15).
الكلّ بالمسيح يخلص، والكلّ بالمسيح يُدان، فإن كان الخلاص أُعطيَ للعالم بواسطة المسيح، فالكلّ يخلص فقط من خلال المسيح، إذا عملوا بحسب الشّريعة المكتوبة في قلوبهم.
فيفرّق بعضهم عن بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجداء ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره:
لماذا الخراف والجداء؟ في فلسطين القديمة كانت تتمّ رعاية القطيع مؤلفـًا من خراف وجداء، فلا تفصل إلّا عند المساء، فالجداء تحتاج لدفء أكثر من الخراف، ولذلك كانت توضع في مكان مُقفل، من الطبيعي أن يكون مظلمًا، أمّا الخراف فكانت تترك في العراء، إنّما تحت حماية الرّعاة المشدّدة (كما الرّعاة السّاهرون على قطعانهم حين بشّرهم الملائكة بولادة المسيح في لو 2، 8). وفي المقابل لقد كانت الخراف أكثر قيمة من الجداء بسبب ثمنها المرتفع وبسبب تعدّد استعمال لحمها وصوفها. لذلك فقد كانت تراقب بشدّة في هجمة الذئاب رغم أنّها كانت تُترك في المرعى.
كلّ هذه العناصر أصبحت إشارات رمزيّة. القطيع يبقى مجتمعًا طيلة النّهار كما الإنسان لا يميز في نهار الحياة بين بارّ وخاطئ، وفي المساء، مساء الحياة يُفصل الجداء عن الخراف، الأبرار عن الأشرار، فيوضع الجداء – الأشرار في المكان المقفل المظلم، بينما تترك الخراف – الأبرار في المرعى، رمز الملكوت (مراعٍ خصيبة يقيلني، عصاك وعكازك تعزياتي، عصا الرّاعي تدلّ على وجوده قرب الخراف، بصوت العصا على الأرض يتشجع القطيع لأنّه يعرف كيف يتجه، وأنّ الرّاعي – المسيح (أنا الرّاعي الصّالح يو 6) موجود معه، وهذا الصّوت نفسه يخيف الذئاب فتبتعد: هي حالة الملكوت).
الخراف إلى اليمين والجداء إلى اليسار.
هما اتّجاهان رمزيّان يعنيان إمّا
- اليمين علامة جلوس الشّخص الأكثر أهميّة بعد الملك. (ووضع عرشا للملكة عن يمين الملك 1ملوك 2، 19، قال الربّ لربّي إجلس عن يميني [مز 110، 41]).
- اليمين نسبة إلى يد الله اليمنى معدّد.
- الفرح. فرح دفّاق هو حضورك، ولذّة من يمينك إلى الأبد مز 11، 16.
- الخلاص للأبرار. خلص مختاريك، واجعل خلاصًا بمينك مز 108، 7
- البركة التي تعطى لمن اختارهم الآب. تك 48، 14
بينما اليسار هو رمزيّا المكان المعدّ لمن لا مكانة له.
- ويقول الملك للذين عن يمينه. تعالوا يا مُباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم. لقد تكلّما سابقـًا عن انتقال متى اللّغوي من "ابن الإنسان" إلى "الملك" و"العرش" والبُعد الانتروبولوجيّ والكريستولوجي لهذا الإنتقال اللّغوي. إنّما ما يجب أن ننوّه به هنا فهو استعمال معنى كلمة "ملك" في كلامه عن يسوع.
في إنجيل الطفولة يستعمل متّى كلمة "ملك" ويضعها على فمّ المجوس الوثنيّين الآتين من الشّرق، على الأرجح من بلاد فارس، أي إيران الحاليّة. إنّما هذا اللقب جوبه بالرّفض من قبل هيرودوس لذلك أراد إلغاءه: "أرسل فقتل كلّ طفل في بيت لحم". لم يفهم العالم معنى ملكوت المسيح، نظروا إليه من وجهة نظر سياسيّة، هيرودوس رآه خطرًا على مملكته، وهو الخارج من عائلة تقاتل أبناءها على المملكة فأبادوا الواحد الآخر. وفي نهاية حياته على الأرض، جوبه يسوع الملك بالرّفض والسّخريّة "ضفروا لإكليلًا من شوك، جعلوا قصبة في يمناه وجثوا أمامه يسخرون منه ويقولون: سلام، يا ملك اليهود" (متى 27، 29).
إنّما في المجيء الأخير، يقول متّى ضمنيًّا، لن يكون هناك مجال للرّفض، فالمسيح سوف يعتلن لكلّ كائن ملكًا حقيقيًّا وديّان البشر، له تجثو كلّ ركبة ويسبّح كلّ لسان. مجيء المسيح الثاني سوف يكون بقوّة الدينونة لا يضعف المذود ووهن الجسد المتألم.
تعالوا يا مباركي أبي.
المسيح الكلمة، به كان كلّ شيء. ومن دونه ما كان شيء مما كان يقول يوحنا (يو 1)، هو وسيلة الخلق، اذ كان على فم الله حين قال: ليكن، لأنه الكلمة، وكان في يد الله حين خلق، لأنه هو الفعل logos . هو الذي نال لنا التبني لأننا افتدينا بدمه ونلنا حالة البنوة كما يقول بولس (غل 4)، لذلك فالمسيح هو مقياس الدخول الى ملكوت الآب، به كان الخلاص، وبه ندخل الى السماء.
رثوا ملك السماء.
لا يستعمل متّى عبارة شاركوا في ملك السماء، او اسكنوا في الملكوت، إنّما يقول: رثوا، أي خذوا ما كان للآب مُلكًا لكم. ألا يعني هذا أنّ الآب قد مات لكي يرث الإبن؟ قد ندخل هنا في جدل طويل حول موت الآب، الضابط الكل والقادر على إعادة كل خاطىء إلى العدم، إنما لم يفعل هذا، بل احتجب أمام حريّة الإنسان، لم يفرض رغبته في أن يعود إليه كل خاطىء ويحيا، بل احترم قرار الإنسان وخياره، فالإنسان مخلوق على صورة الله، حرّ في اختيار مصيره، فما كان من الله إزاء هذه الحريّة أن احتجب وترك للإنسان حريّة الإختيار، عاضداً إيّاه بالنعمة ليختار الحياة.
المُعدّ لكُم مُنذ إنشاء العالم.
إن مشاركة الإنسان في الحياة الإلهية هي غاية الله في خلقه على صورته ومثاله.
إنّ الله برحمته شاء خلق الانسان ليعطيه بالتبني الحياة الإلهية، ورغم خطيئة الإنسان الأصلية أعطاه الله الوعد بالخلاص من خلال نسل المرأة (تك 3)، وكلمة بالعهود والأنبياء والمرسلين، ولما بلغ ملء الزمن، أرسل ابنه مولودا من امرأة (غل 4، 4) ليتاح للإنسان العودة في مخطط الله الخلاصي له، التأله.
لنفهم هذه الآية علينا ان نقرأ سفر الأمثال ( 8، 22-31) الحكمة، التي هي المسيح، الكائنة منذ الأزل ومهندسة خلائق الله تتكلم، منذ الأزل أقمت، من قبل إنشاء العالم، هذه الحكمة الأزلية تدعو الإنسان إلى سماع كلمة الله ليحيا. هي الحكمة الأزلية التي أرادت خلاص الإنسان وإشراكه في ملكوت الله والحياة الإلهية.
لأنني كنت جائعًا فأطعمتموني
الفعل اليونانيّ المستعمل هنا جاع يستعمل لحالة الجوع بسبب الحاجة والفقر، وليس بسبب تأخر الطعام مثلاً او أي سبب آخر. هو المرادف دومًا لحاجة ماسة لدى المحتاج، والنتيجة تكون الموت. هي ليست فقط مجرد عمل رحمة مع فقير لمساعدته على تخفيف حدة الجوع، بل هي اعطاء الحياة وإنقاذ من الموت.
هي إعادة لما صنعه الله لشعبه في ما مضى. قات الله شعبه ووفّر له حاجته من الخبز، وأعطاه المنّ من السماء في الصحراء وفي ملء الازمنة تجسد المسيح كلمة الله وأعطى الإنسان المنّ الجديد، الخبز المحيي جسده الحق والسرّي ليأكله فينال الحياة.
هي ليست فقط الحاجة الجسدية إذًا، فالإفخارستيا لا توفر لنا الزاد الجسدي، بل الطعام الروحي الذي يقينا من الموت الأبدي إن كنا نستحقه، لذا يجب ألّا نفهم كلمات المسيح بأنها تتعلق بإعطاء الخبز المادي للآخر لإنقاذه من الموت، خبر الكلمة الموحاة، أي بشارة الإنجيل ليحيا، وخبز الإفخارستيا ليحيا إلى الأبد.
واجبنا نحن مسيحيين ليس بدافع الشفقة بل بدافع المحبة، والمحبة تتأسس على العدالة، فخيرات الأرض هي ملك للجميع، ولا يحق لي، لا من واجب الشفقة، إنّما من واجب المحبة العادلة أن أشبع وأترك أخي جائعًا، لأني عندها أكون سارقًا لخيور الأرض.
إنّ المشاركة في الخبز، مشاركة الفقير، هي إنقاذ لصورة الله ومثاله من الموت بسبب قلة العدالة، هي جريمة الإنسان ضد الله الحاضر في الجائع، جريمة سببها أحيانا الطمع وأحيانًا السياسة، وفي غالب الأحيان الجهل وعدم الإكتراث.
ومسؤوليتي كمعمّد لا تصبح أقل ان كان هكذا الجوع روحيًّا، فواجبي الأول أنا معمّد الذي لبس المسيح وأصبح مسيحًا آخر يشترك في كهنوت العماد العام، أن أقي الآخر من الموت الروحي كاسرًا معه خبز الكلمة ومقدمًا له حقيقة الإفخارستيا، ليس بالكلام فقط، إنما خاصة بتحوّلي أمامه إلى حقيقة إفخارستيّة، إلى حضور فعلي للمسيح، من خلال المحبة والخدمة والتضحية.
دعوتي هي أن أحمي الإنسان، كل الإنسان، بكافة أبعاده من الموت، جسديًّا أولاً، وروحيًّا خاصة، لا يمكن أن أحمي الجسد من الموت وأتركه يموت روحيًّا، وألا أكون قد حفظت الجسد للموت الأبدي، ولا يمكن أن أتغاضى عن الحاجة المادية بسر الحاجة الروحيّة، "أعطه الخبز أولاً ليحيا، ثم بشّره".
كنت عطشانًا، فسقيتموني
ما قلناه عن الخبز نقوله عن الشرب أيضًا، وما قلناه عن الجوع نقوله عن العطش قد تكون العادة اليهودية الأصلية هي تقدمة الماء على الطرقات لأولئك الذين هم في حجّ نحو أورشليم، نحو هيكل الله المقدس، تحت وطأة حر فلسطين. إعطاء الماء لعطشان هو اعطاء القدرة على الإستمرار في مسيرة الحج نحو لقاء الآب، هو مساعدة الانسان، أخي في البنوة الإلهية، على اكتشاف وجه الله وإرادته في حياته. دون تقديم الماء – المساعدة لبعضنا بعضًا، لا يمكن ان نصل إلى نهاية الحج.
هو واجب مادي طبعًا، إنما هي خاصة مسؤولية روحية ملقاة على عاتقنا، كلنا مسؤولون عن الآخر، لأننا نحيا في جماعة، وواجبنا الأقدس هو أن نجعل الآخر يكتشف الله، أو بالأحرى نساعده على اكتشاف الله من خلال توفير الإمكانات الأساسية:
من واجبي أنا الكاهن أن أساعد على ولادة المسيح في نفوس المؤمنين من واجبي كوني زوج أو زوجة أن أوّفر دومًا حضور الله في عائلتي وأكون قرب الشريك في طريقه نحو اكتشاف الله.
من واجبي كوني والدًا أووالدة أن أعطي، ليس فقط ماء ماديًّا لابني، بل أيضًا ماء الحياة الروحيّة، وأن أسعى لأن تكون متوفرة. فابني في زيارة حج، يجب أن يكتشف البعد الروحي في حياته ويخلق علاقة صداقة مع المسيح، ومن مسؤولياتي أن أكون موجودًا قربه على طريق الحياة، لأعطيه الماء ساعة يعطش، فأولّد في حياته القوة والفرح من جديد. "أنا عطشان" قالها المسيح على الصليب، حتى الله احتاج إلى أن نعطيه الماء، إنما هذه الماء يطلبها هو ليس لأجله بل لأجل الإنسانية كلها الممثلة في جسده المتألم المعلّق على الصليب. "أنا عطشان" هي صرخة الإنسانية، وهي مسؤولية تُلقى على عاتق كل منّا، في أن نُقدّم "كأس الخلاص" لكلِّ مُحتاج.
كُنتُ غريبًا فأويتموني
الغريب في مجتمع إسرائيل كان يعاني من مشاكل جمّة في حلوله في مدينة ما، فما من أحد يثق بالغريب، وإن كان فقيرًا لا مال لديه ليحل في فندق كان عليه أن ينام في العراء معرّضًا لقساوة الطبيعة.
هذا الغريب الذي يتكلم عنه المسيح لا بد ان يكون فقيرًا معرّضا للموت لأن لا مكان يُستقبل فيه.
بالنسبة إلى المنطق المسيحي، البيت، مثل الخبز، يجب أن يكون في خدمة الإنسان الآخر، ففي خطر الضياع لا بدّ أن يتحول بيتي الى مضافة لهذا الغريب. هذا التعليم يجد جذوره في تعاليم العهد القديم: في سفر أيوب نقرأ: "ما من غريب كان عليه ان ينام في الطريق، لأني شرّعت أبوابي للمسافرين" (31، 32) والعهد الجديد يشدد ايضًا على أهمية ضيافة الغريب:
"لا تنسوا ضيافة الغرباء، فمنهم دون أن يعلم قد استضاف ملائكة" (عب 13، 2)، ومن مواصفات الأرامل المقبولات لخدمة الكنيسة ضيافة الغرباء (طيم 5، 10).
إنما أهميّة الغريب تكمن في بعد الغربة الروحي، المسيحي هو المغترب في هذا العالم، في العالم انما ليس من العالم، "فنحن سفراء المسيح، كما لو ان الله يعظ بنا" (2 قور 5، 20) وإن كان المسيحي سفيراً، فلا بد أن ينتسب إلى مملكة الملك الذي أرسله.
الكنيسة أيضًا غريبة عن هذا العالم، وبالتالي فللذي يقبلها في بيته اجرًا في السماء، لذلك يسمي بولس غايوس "مضيفي ومضيف الكنيسة كلها" (روم 16، 23) ويستعمل كلمة "غريبي" ليقول مضيفي. غايوس قد استضاف بولس والكنيسة المحلية في بيته للصلاة وكسر الخبز، فأصبح غايوس مضيف الكنيسة كلها. اذاً فحتى من الناحية الليتورجية، إضافة الغريب هي أيضًا إضافة الكنيسة كلّها، أي إضافة المسيح نفسه من خلال قبول جسده السرّي "الكنيسة كلّها" في بيته، أي في حياته الخاصة وفي تاريخه.
وهذه الحقيقة تبرز أكثر من خلال الفعل "آوى" (sunagein) الذي يترجم "جمع معاً" الذي لا بد أن يكون ترجمة knash الآرامي، جمع، وهو ذو استعمال ليتورجي وكنسي. لم يقل استقبل انما جمع ليعطي طابعًا كنسيًّا وليتورجيًّا أيضًا، هي قبول حقيقة الكنيسة المغتربة في واقع حياته، وبالتالي قبول كونه هو أيضًا غريبًا عن منطق العالم الحاضر، وإيمانه بالحقيقة التي أعلنها المسيح: ملكوتنا ليس من هذا العالم". حقيقة رفضها من رفض المسيح الملك كما قلنا سابقًا.
وعريانًا فكسوتموني.
إنّ فكرة الجسد العاري ما بعد خطيئة آدم وحواء يختلف عن المنطق الحسن الذي كان يمتاز به قبل الخطيئة. فصورة الإنسان العاري أصبحت رمزًا للطبيعة البشريّة المهدد وجسدها دومًا والمحتاجة إلى نعمة الله ومساعدة الجماعة لتحيا. في أيوب نرى ان العراء هو رمز لضعف الإنسان أمام الموت. عريانًا خرجت من جوف أمي وعريانًا أعود" (ايوب 1، 21).
- من الناحية الإجتماعية يمثّل العري حالة من الفقر المدقع ماديًا وروحيًّا، فالرداء يدل على مستوى صاحبه، وإعطاء الرداء لأحد آخر يمثل أسمى تعبير للصداقة وللدخول في عهد مع الموهوب إليه (اصم 18، 2-3، 1 ملوك 19، 19).
- هو دخول في عهد حب وزواج، (تت 23، 1). إعطاء الثوب لعارٍ هو اذاً أكثر بكثير من مجرد عمل خير شفقة، هو الدخول في عهد معه، أي الدخول في علاقة محبة عميقة مع الآخر. نحن سوف نُدان على المحبة، والمحبة ليست الشفقة بل هي محبة المسيح لشعبه الذي دخل في عهد حب معه، لذلك "فمن طلب ثوبك فاعطه رداءك أيضًا" يقول المسيح لتلاميذه.
- الثوب هو أيضًا من علامات حضور الله في حياة الإنسان، لذلك قطع يعقوب نذرًا قائلاً: "إن كان الله معي في الرحلة التي أقوم بها، وأعطاني الخبز لآكل والثوب لألبس..." (مك 28، 20).
إلباس العاري هو إعادة الإعتبار إلى الإنسان، إعطاءه الحياة من جديد، إلباسه الكرامة والأهلية التي يملكها الانسان باعتباره ابناً لله.
ومريضًا فزرتموني.
المزمور 38 يلخّص نظرة المجتمع اليهودي إلى المريض، هو الخاطىء المضروب من الله، والمنبوذ من جماعة إسرائيل، حتى من يعدّون اقارب وأصدقاء تركوه وحيدًا.
المرض هو مقدمة لموتٍ بالنسبة إلى الإنسان، لأن المرض هو فرصة تأمل في الموت الذي لا بدّ أنّه يقترب. ألم الحدث هذا يضاف إليه ألم موت من نوع آخر، موت العزلة. المريض وحيدًا يعاني من صمت يشبه صمت القبر، صمت مثوى الأموات.
زيارة المريض هو أيضًا إعطاؤه الحياة، اخراجه من صمت القبر ومن وحدة العزلة. المسيح طلب من التلاميذ السهر معه لأنّه بدأ يعاني ألم الموت مسبقًا، هو موت الوحدة. وعلى الصليب يبدو المسيح كصاحب المزمور 38، متألمًا مجروحًا وقف الناظرون إليه بعيدًا، وحده على الصليب.
كما أنّ المسيح كان جانبنا في ألمنا، لا بل حمل آلامنا معًا، كذلك دعوتنا تقضي علينا أن نعيد عمل المسيح، لا فقط أن نزور المريض بل أن نُحدّث عنه. هكذا هو عمل المسيح الآخر.
وسجينًا فجئتم إليّ
إنّ السجن في منطق الجماعات الأولى لم يكن له المعنى نفسه الذي عندنا اليوم، ولاسيما أنّ الإنجيل قد كُتب في أيام الاضطهاد، وكان المسيحيون يُرمون في السجن كمرحلة أولى من طريق عذاب شاقة غالبًا ما تنتهي بالإستشهاد.
مرحلة السجن كانت مرحلة انتقالية، وزيارة سجين كانت محفوفة بالمخاطر خاصة إذا كان السجين مسيحيًا، لأن الزائر كان يُخاطر بأن يسجن أيضًا لأنه مسيحي. هو وضع مُشابه لوضع المجتمعات التوتاليتارية او الديكتاتورية في عالمنا المعاصر.
هذه الدعوة هي للوقوف إلى جانب من يتألم في سبيل المسيح، ليس مجرد زيارة لمجرم أو جانح، انما هي أيضًا إنقاذ نفس من الموت إعطاء القوة لمن يُضطهد في سبيل إيمانه، ومساندته للحفاظ على القضية (الإيمان) التي يحملها. زيارة السجين هي إخراج الإنسان من سجن مادي وضعه فيه الإنسان، يخرج منه بطريقة روحيّة ونفسيّة عن طريق وقوف الكنيسة إلى جانبه.
هي تذكير بأن علينا ان نحمل أثقال بعضنا البعض، ولو كان الثمن المُخاطرة بحياتي وبحريتي.
وعلى النطاق الإنساني كم من المرات نترك السجين وحيدًا، ليس فقط السجين ماديًا، إنما خاصة من هو سجين معتقداته وأهواءه وضعفه وخطيئته. سجين تقاليده الإجتماعية أو تعصبه الأعمى. زيارة هذا النوع من السُجناء يعني العمل على تحطيم كل القيود التي تعيق نمو الشخص البشري ونضجه، وهي مسؤولية كل معمّد مرسل ليعلن حريّة أبناء الله.
إن كان بعض المسيحيين تحاشوا زيارة إخوتهم خوفًا من الدخول هم أيضًا إلى السجن، فنحن نتحاشى الإلتزام بمشروع تحرير الإنسان المُعاصر خوفًا من تقييد أنفسنا بمستلزمات هذه العمليّة. تحرير الآخر يستوجب منّي الإلتزام والتضيحة وبذل الذات، وهي كلّها سجون أو قيود تقيّدنا عن راحة إنسانية أو جسديّة أو نفسيّة، ودعوتنا الحقيقية هي تحرير الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان، ولو استلزم الأمر التضحية بحريتي الخاصة.
- فيجيب الأبرار ويقولون... متى... متى... وأتينا اليك؟
- فيجيب الأشرار ويقولون... متى رأيناك... ولم نخدمك؟
يجب ان نتنبه في مقارنتنا لجواب الفئتين الى أمرين أساسيين:
- شكل الجواب
- مضمون الجواب
في ما يتعلق بشكل الجواب نرى آل اليمين يعيدون حرفيًا ما قاله السيد، بترداد قد يبدو للوهلة الأولى مملاًّ من الناحية الأدبيّة، بينما نجد آل اليسار يرددون باختصار هذه الكلمات نفسها، ولا يكتفون باختصارها، انما يحرّفونها أيضًا في سبيل مصلحتهم الخاصة.
بتردادهم الحرفي لكلمات المسيح، يقول متى أن الأبرار كانوا يعلمون ماذا يفعلون، ولم يكونوا خائفين في مواجهة الحقيقة، لم يكونوا يخدمون لغاية خاصة، إنما كان عملهم طبيعيًا، فالمسيحي لا يعمل الخير رغبة في الوصول إلى غاية، ولو كانت الغاية ملكوت السماء، بل يقومون بواجبهم لأنهم يحبون المسيح، ولأن حب المسيح أصبح طبيعيًا في كيانهم، يقومون بالخير لأن الخير أصبح فيهم، ولأنهم قد لبسوا بالعماد المسيح، الخير الأعظم. إنه حب مسيحي أسمى، ليس خوف العبد أو الخادم، بل شجاعة الإبن.
أمّا جواب آل اليسار فعمد متّى على إظهاره شديد الإختلاف عن جواب الأبرار: هو سريع النمط، لا يرتكز على نمط متى... ولم، متى... ولم، بل متى... و... و...؟ هذا النمط السريع يعطي الانطباع الأدبي بأن المتكلم يبتغي الإسراع هربًا او تهربًا. يقول متى بطريقة غير مباشرة إن الأشرار يخافون مواجهة حقيقتهم، فيسردون المشكلة ولا يذكرون الواجب الذي كان عليهم القيام به.
مضمون الجواب: إنما ما يلفت هو انهم سردوا لائحة الحاجات كلها ولم يردّدوا لائحة الواجبات التي كان عليهم القيام بهاّ! هي أيضا طريقة غير مباشرة يقول من خلالها متى أنّ الأشرار علموا المشاكل، أي أنّهم كانوا يعلمون حاجة إخوتهم، هذه المعرفة عبّروا عنها من خلال السرد الدقيق لها، إنما أحجموا عن القيام على مداواتها، لذلك رفضوا ذكر ما وجب عليهم فعله. العنصر الوحيد الذي يقولونه "ولم نخدمك (diakonein) يستعلمون فعلاً لم يستعمله يسوع، يستعملون فعلاً مبهما "نخدمك"، واستعمالهم لهذا الفعل قد يُفهم أيضًا بمعنى الخدمة الليتورجيّة والروحيّة. يستعملون ما لم يقله المسيح للهرب من الإقرار بما كان عليهم القيام به.
لقد عبّروا فقط عن استعدادهم "للخدمة" [وما خدمناك] لو أنّهم كانوا عرفوا حاجات المسيح. وقد تكون هذه الخدمة ليتورجيّة أو روحيّة. لقد قصّروا مساعدتهم للفقير على البعد الروحي أو الليتورجي، وأهملوا الشق الجسدي والإنساني العميق. علاقتهم مع السيد، على عكس علاقة الأبرار، هي علاقة خوف وعبودية. الأبرار عملوا الخير دون مقابل، إنما الأشرار أعلنوا عن استعدادهم "للخدمة" لو كانوا عرفوا حاجة السيد.
الفرق بينهم آل اليمين وآل اليسار، هو ان آل اليسار حُبّهم مشروط، وعلاقتهم بالسيد علاقة عبوديّة لا غير.
كل ما فعلتموه لواحد من إخوتي، الأصغر بينهم...(elaxiston)
"يقول يسوع: لإخوتي الصغار، إنما للأصغر بين إخوتي، elaxiston هي التصغير المطلق، هو الأصغر ليس عمرًا، إنما هو الأصغر معنويًّا، هو الأضعف والأفقر والأكثر جوعًا وعطشًا وعريًا. محبة الإنسان، كيما يخلص، لا يجب أن تكون لا انتقائية ولا نخبوية. لا يمكنني أن أختار من أساعد، بل أفتش عن الأصغر وأعطيه الحياة. لا يحق لي أن افتش عن النخبة من الأشخاص كي أدخل في علاقة محبة معهم، دعوتي هي أن أحب من لا قيمة له، فأن أعطيه الحياة.
يلفتنا ايضا استعمال كلمة "أخ" وهي تعني أمرين.
* أخوّة البشرية الشاملة من خلال المسيح، فكلنا أصبحنا ابناء لله بالتبني من خلال بنوة المسيح الطبيعية للآب. افتداؤنا أدخلنا في علاقة عضويّة مع البشريّة كلها، أصبحنا عائلة واحدة، أو بالأحرى عُدنا عائلة واحدة كما كنّا قبل خطيئة والدينا الأوّلين.
عمل المسيح الخلاصي حدد البشريّة المخلوقة على صورة الله ومثاله، وصحّح العلاقة بين الاخوة، فلم تعد علاقتنا مبنية على مثال علاقة قايين وهابيل، لم تعد النظرة إلى الإنسان الآخر كونه خطرًا ممكنًا على حياتي أسعى دومًا إلى إلغاءه جسديًا او نفسيًّا ومعنويًّا، إنما أصبح يسوع المسيح مثلاً للعلاقة بين البشر.
هو أعطى حياته لنا ليحررنا من قيودنا. أعطى خبزه حين كنّا جائعين للحياة الحقة، أعطانا كأسه، ماء الحياة السريّة حين كدنا نموت ظمأ للخلاص، أعطانا ذاته ثوب مجد حين لبسناه بالمعمودية، افتقد ضعفنا بحنانه وداوى جراح بشريتنا الخاطئة المريضة، أعادنا بالتبني من غربة الخطيئة والعصيان إلى ديار الآب، لم يأونا كغرباء إنما جعلنا ورثة ملكوت أبيه، نحن الذين "كنا حينا غرباء عن الموعد، ضالين مشتتين لا رجاء لنا (افسس) وحطم القيود الكثيرة التي كانت تقيد بشريتنا. قيود الناموس والتقاليد البالية، قيود الخطيئة ونتائج الخطيئة في حياتنا، قيودًا كانت كلها تمنعنا من الإنطلاق على دروب الحريّة نحو بيت الآب. لم يطلب منّا المسيح إلا ما أعطاه لنا، ولم يطلبه لنفسه، بل طلبه لإخوتنا الذين ينتظرون خلاص الله لهم من خلال اعمالنا، لأننا نتمم في التاريخ عمل المسيح الخلاصي.
* إخوة العماد، أي المسيحيين.
نرى أنّ الماثلين أمام محكمة المسيح هم الأمم، وليسوا أبناء شعب الله، هم الوثنيين أو أيضًا أبناء الشعب المختار الذين لم يقبلوا كلام الله فاصبحوا أممًا. دينونة غير المسيحيين هي على قبولهم ليس فقط المسيحيين كأشخاص، إنما منطق المسيح وقيمه.
دينونة العالم البعيد عن الله ستكون على أساس قبولها لمنطق المحبة الشاملة والمجانيّة أو عدم قبوله. إعطاء الذات للآخر من خلال رد الحياة له هو منطق لا يقبله العالم إلا إذا قبل منطق المسيح، منطق التضحية بالذات في سبيل الآخر. وعالم اليوم، العالم الذي نحيا فيه، هو عالم استهلاك، عالم يتبنى منطق القوة والعنف، ويعطي القيمة المطلقة للقوة الاقتصادية، وبالتالي فإن الضعيف أو الفقير يبقيان مهمّشين. لا خلاص للعالم إلا بارتداده إلى منطق السيد المسيح.
قبول الأخوّة هو اذاً قبول لمنطقهم، فالإنسان يمثل ما يحتوي الانسان يُقبل أن يرفض على أساس مبادئه وقناعاته وتاريخه، إعطاء الخبز للإنسان، إعطاءه الحياة، هو قبول هذا الإنسان وتبنّي قناعاته. قبول الأمم لأخ المسيح هو بالحقيقة قبول العالم (الذي لم يعرف بعد قناعات المسيح ومبادئه) لمنطق المسيح.
"الأصغر بين اخوتي" هي مفارقة كبيرة تحتوي على فكر غريب عن فكر العالم العنيف. العالم يقيس الإنسان بحسب قدرته وقوته، والمسيح يعلن إن المسيحي قد يبدو الأصغر والأضعف. المسيحي المسالم قد يبدو الأصغر بين أقوياء العالم، وقدرته قد تظهر معدومة إزاء قوى العالم السياسية والعسكرية والاقتصادية، إنما في الحقيقة هو سلام جبّار، وضعف حوّل العالم ولا يزال قادراً على تحويله، هو ضعف الخميرة التي دون جلبة ولا ضجة تخمّر العجينة كلها لتعطي خبز الحياة، وهي حبة الخردل التي تبدو للوهلة الأولى أصغر الحبوب وأقلها قيمة، إنما هي تنمو رويدًا رويدًا، دون إعلان ولا دعاية، وتتحول إلى شجرة عملاقة تتفيأ ظلالها طيور السماء، اي الكائنات المدعوة للتحليق في سماء الألوهة.
بهذا نفهم معنى "كل ما فعلتموه للأصغر بين اخوتي فلي قد فعلتموه".
هو أبعد ما يكون عن تعاطف عابر أو شعور بالشفقة، فالمسيح يُعلن انه واحد مع الذي يقبل تعاليمه ويلتزم بمبادئه وقبول العالم للتلميذ، هو قبول لمنطق المسيح.
إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته.
الملاعين
اللعنة هي عكس البركة، والبركة في الكتاب المقدس هي علامة رضى الله على الإنسان، ومن نتائجها إعطاء الثمر، فابرهيم باركه الله وكانت العلامة إعطاءه نسلاً لا يحصى، وآدم وحواء باركهما الله وقال لهما إنميا واكثرا، وآباء العهد القديم حين نالوا البركة اثمروا وانموا.
داود حين باركه الله وعده ناثان بالمسيح يأتي من نسله، وحين عمل عكس إرادة الله مات ابن الخطيئة، لم يرَ النور، رمزًا لعتم الخطيئة ولعدم قدرة الإنسان على إعطاء الحياة دون البركة الإلهية. موت الأبكار في مصر هي علامة عدم البركة لعصيان ارادة الله، والتينة حين لعنها المسيح يبست...
الملعون هو الذي فصل ذاته عن إرادة الله وعصى وصاياه ينسب الموت لنفسه كساقية فصلت ذاتها عن الينبوع. آل اليسار اختاروا رفض الله فكانوا ملعونين أي إن اعماله كانت دون ثمر، وهم كانوا غير مؤهّلين لا لإعطاء الحياة ولا لدخول ملكوت الحياة الابدية.
النار الأبدية، نار الإنفصال عن الله مصدر وجودنا وغايته، وخيرنا الأسمى. هذه النار كانت معدّة في الأصل (لاحظ استعمال زمن الماضي التّام: الى النار التي كانت قد أُعدَّت) لإبليس وملائكته. هي اذًا حالة لم تكن معدة للإنسان، فطبيعة الإنسان خيّرة حسنة، ومكانه بيت الآب. ذهاب الإنسان إلى النار الأبدية هي حقيقة مخالفة لطبيعة الخلق، سببها لا إرادة الله انما حريّة الإنسان التي فصلته عن الخالق.
الشيطان، ملاك في الأصل معاين لله وعارف للحقيقة، رفض الطاعة وقرر بحريته وبعقله المطلق (وهو عقل مطلق لا يحده جسد) الإنفصال عن الله. إن كان عقل مطلق فهو إذًا يعرف عاقبة الأمور، لذلك سقط ولا مجال لعودته، فهو لأنه غير جسدي وخارج الزمان، فإنّ خياره مزامن لعاقبة خياره. إنما ماذا يعني متى بكلمة "بملائكته"؟ قد تعني امران.
- إما أتباع إبليس، وبالتالي فقط كان رئيس ملائكة، وهذا التفسير يمكننا اعتماده إذا أخذنا aggelos بمعنى ملاك.
- أما الأشرار أذا اخذنا aggelos بمعناها اللأساسي "مُرسَل" و"رسول" المرسل يحمل رسالة سيده ويتمم إرادة سيده، وإذا قبل الإنسان إرادة الشرير اصبح رسول الشرير ومشاركًا له في الاثم. آل اليسار، بقبولهم إرادة الشرير، أصبحوا ناشري عصيانه وتعاليمه من خلال رفضهم لمنطق المسيح، عاملين على مقاومته. بهذا يصبحون، مثل سيّدهم، دون ثمار، أي غير مؤهلين لإعطاء الحياة ولا لقبولها، لذلك لا يمكنهم دخول الحياة الأبدية.
الأب بيار نجم ر.م.م.